سورة النجم - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النجم)


        


{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: الفؤاد فؤاد من؟ نقول المشهور أنه فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم معناه أنه ما كذب فؤاده واللام لتعريف ما علم حاله لسبق ذكر محمد عليه الصلاة والسلام في قوله: {إلى عَبْدِهِ} وفي قوله: {وَهُوَ بالأفق الأعلى} [النجم: 7] وقوله تعالى: {مَا ضَلَّ صاحبكم} [النجم: 2] ويحتمل أن يقال: {مَا كَذَبَ الفؤاد} أي جنس الفؤاد لأن المكذب هو الوهم والخيال يقول كيف يرى الله أو كيف يرى جبريل مع أنه ألطف من الهوى والهواء لا يرى، وكذلك يقول الوهم والخيال إن رأى ربه رأى في جهة ومكان وعلى هيئة والكل ينافي كون المرئي إلها، ولو رأى جبريل عليه السلام مع أنه صار على صورة دحية أو غيره فقد انقلبت حقيقته ولو جاز ذلك لارتفع الأمان عن المرئيات، فنقول رؤية الله تعالى ورؤية جبريل عليه السلام على ما رآه محمد عليه الصلاة والسلام جائزة عند من له قلب فالفؤاد لا ينكر ذلك، وإن كانت النفس المتوهمة والمتخيلة تنكره.
المسألة الثانية: ما معنى {مَا كَذَبَ}؟ نقول فيه وجوه: الوجه الأول: ما قاله الزمخشري وهو أن قلبه لم يكذب وما قال إن ما رآه بصرك ليس بصحيح، ولو قال فؤاده ذلك لكان كاذباً فيما قاله وهو قريب مما قاله المبرد حيث قال: معناه صدق الفؤاد، فيما رأى، (رأى) شيئاً فصدق فيه الثاني: قرئ {مَا كَذَبَ الفؤاد} بالتشديد ومعناه ما قال إن المرئي خيال لا حقيقة له الثالث: هو أن هذا مقرر لما ذكرنا من أن محمداً صلى الله عليه وسلم، لما رأى جبريل عليه السلام خلق الله له علماً ضرورياً علم أنه ليس بخيال وليس هو على ما ذكرنا قصد الحق، وتقديره ما جوّز أن يكون كاذباً وفي الوقوع وإرادة نفي الجواز كثير قال الله تعالى: {لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيء} [غافر: 16] وقال: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} [الأنعام: 103] وقال: {وَمَا رَبُّكَ بغافل} [النمل: 93] والكل لنفي الجواز بخلاف قوله تعالى: {لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [يوسف: 56] و{لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30]، و{لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] فإنه لنفي الوقوع.
المسألة الثالثة: الرائي في قوله: {مَا رأى} هو الفؤاد أو البصر أو غيرهما؟ نقول فيه وجوه:
الأول: الفؤاد كأنه تعالى قال: ما كذب الفؤاد ما رآه الفؤاد أي لم يقل إنه جني أو شيطان بل تيقن أن ما رآه بفؤاده صدق صحيح الثاني: البصر أي ما كذب الفؤاد ما رآه البصر، ولم يقل إن ما رآه البصر خيال الثالث: ما كذب الفؤاد ما رأى محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا على قولنا الفؤاد للجنس ظاهر أي القلوب تشهد بصحة ما رآه محمد صلى الله عليه وسلم (من الرؤيا) وإن كانت الأوهام لا تعترف بها.
المسألة الرابعة: ما المرئي في قوله: {مَا رأى}؟ نقول على الاختلاف السابق والذي يحتمل الكلام وجوه ثلاثة: الأول: الرب تعالى والثاني: جبريل عليه السلام والثالث: الآيات العجيبة الإلهية، فإن قيل كيف تمكن رؤية الله تعالى بحيث لا يقدح فيه ولا يلزم منه كونه جسماً في جهة؟ نقول، اعلم أن العاقل إذا تأمل وتفكر في رجل موجود في مكان، وقال هذا مرئي الله تعالى يراه الله، و(إذا) تفكر في أمر لا يوجد أصلاً وقال هذا مرئي الله تعالى يراه الله تعالى يجد بينهما فرقاً وعقله يصحح الكلام الأول ويكذب الكلام الثاني، فذلك ليس بمعنى كونه معلوماً لأنه لو قال الموجود معلوم الله والمعدوم معلوم الله لما وجد في كلامه خللاً واستبعاداً فالله راء بمعنى كونه عالماً، ثم إن الله يكون رائياً ولا يصير مقابلاً للمرئي، ولا يحصل في جهة ولا يكون مقابلاً له، وإنما يصعب على الوهم ذلك من حيث إنه لم ير شيئاً إلا في جهة فيقول إن ذلك واجب، ومما يصحح هذا أنك ترى في الماء قمراً وفي الحقيقة ما رأيت القمر حالة نظرك إلى الماء إلا في مكانه فوق السماء فرأيت القمر في الماء، لأن الشعاع الخارج من البصر اتصل به فرد الماء ذلك الشعاع إلى السماء، لكن وهمك لما رأى أكثر ما رآه في المقابلة لم يعهد رؤية شيء يكون خلفه إلا بالتوجه إليه، قال إني أرى القمر، ولا رؤية إلا إذ كان المرئي في مقابلة الحدقة ولا مقابل للحدقة إلا الماء، فحكم إذن بناء على هذا أنه يرى القمر في الماء، فالوهم يغلب العقل في العالم لكون الأمور العاجلة أكثرها وهمية حسية، وفي الآخرة تزول الأوهام وتنجلي الأفهام فترى الأشياء لوجودها لا لتحيزها، واعلم أن من ينكر جواز رؤية الله تعالى، يلزمه أن ينكر جواز رؤية جبريل عليه السلام، وفيه إنكار الرسالة وهو كفر، وفيه ما يكاد أن يكون كفراً، وذلك لأن من شك في رؤية الله تعالى يقول لو كان الله تعالى جائز الرؤية لكان واجب الرؤية لأن حواسنا سليمة، والله تعالى ليس من وراء حجاب ولا هو في غاية البعد عنا لعدم كونه في جهة ولا مكان فلو جاز أن يرى ولا نراه، للزم القدح في المحسوسات المشاهدات، إذ يجوز حينئذ أن يكون عندنا جبل ولا نراه، فيقال لذلك القائل قد صح أن جبريل عليه السلام كان ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم وعنده غيره وهو يراه ولو وجب ما يجوز لرآه كل أحد، فإن قيل إن هناك حجاباً نقول وجب أن يرى هناك حجاباً فإن الحجاب لا يحجب إذا كان مرئياً على مذهبهم، ثم إن النصوص وردت أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده فجعل بصره في فؤاده أو رآه ببصره فجعل فؤاده في بصره، وكيف لا، وعلى مذهب أهل السنة الرؤية بالإرادة لا بقدرة العبد، فإذا حصل الله تعالى العلم بالشيء من طريق البصر كان رؤية، وإن حصله من طريق القلب كان معرفة والله قادر على أن يحصل العلم بخلق مدرك للمعلوم في البصر كما قدر على أن يحصله بخلق مدرك في القلب، والمسألة مختلف فيها بين الصحابة في الوقوع واختلاف الوقوع مما ينبئ عن الاتفاق على الجواز والمسألة مذكورة في الأصول فلا نطولها.


{أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)}
أي كيف تجادلونه وتوردون شكوككم عليه مع أنه رأى ما رأى عين اليقين؟ ولا شك بعد الرؤية فهو جازم متيقن وأنتم تقولون أصابه الجن ويمكن أن يقال هو مؤكد للمعنى الذي تقدم، وذلك لأن من تيقن شيئاً قد يكون بحيث لا يزول عن نفسه تشكيك وأكد بقوله تعالى:


{وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)}
وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما رآه وهو على بسيط الأرض كان يحتمل أن يقال إنه من الجن احتمالاً في غاية البعد، لما بينا أنه صلى الله عليه وسلم حصل له العلم الضروري بأنه ملك مرسل، واحتمال البعيد لا يقدح في الجزم واليقين، ألا ترى أنا إذا نمنا بالليل وانتبهنا بالنهار نجزم بأن البحار وقت نومنا ما نشفت ولا غارت، والجبال ما عدمت ولا سارت، مع احتمال ذلك فإن الله قادر على ذلك وقت نومنا، ويعيدها إلى ما كانت عليه في يومنا، فلما رآه عند سدرة المنتهى وهو فوق السماء السادسة لم يحتمل أن يكون هناك جن ولا إنس، فنفى ذلك الاحتمال أيضاً فقال تعالى: أفتمارونه على ما يرى رأي العين، وكيف وهو قد رآه في السماء فماذا تقدرون فيه وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الواو يحتمل أن تكون عاطفة، ويحتمل أن تكون للحال على ما بيناه، أي كيف تجادلونه فيما رآه، على وجه لا يشك فيه؟ ومع ذلك لا يحتمل إيراد الشكوك عليه، فإن كثيراً ما يشك المعتقد لشيء فيه ولكن تردد عليه الشكوك ولا يمكنه الجواب عنها، ولا تثريب مع ذلك في أن الأمر كما ذكرنا من المثال، لأنا لا نشك في أن البحار ما صارت ذهباً والجبال ما صارت عهناً، وإذا أورد علينا مورد شكا، وقال وقت نومك يحتمل أن الله تعالى قلبها ثم أعادها لا يمكننا الجواب عنه مع أنا لا نشك في استمرارها على ما هي عليه، لا يقال اللام تنافي كون الواو للحال، فإن المستعمل يقال أفتمارونه، وقد رأى من غير لام، لأنا نقول الواو التي للحال تدخل على جملة والجملة تتركب من مبتدأ وخبر، أو هن فعل وفاعل، وكلاهما يجوز فيه اللام.
المسألة الثانية: قوله: {نَزْلَةً} فعلة من النزول فهي كجلسة من الجلوس، فلابد من نزول، فذلك النزول لمن كان؟ نقول فيه وجوه، وهي مرتبة على أن الضمير في رآه عائد إلى من وفيه قولان الأول: عائد إلى الله تعالى أي رأى الله نزلة أخرى، وهذا على قول من قال: {مَا رأى} في قوله: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} [النجم: 11] هو الله تعالى. وقد قيل بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين، وعلى هذا فالنزلة تحتمل وجهين:
أحدهما: أنها لله، وعلى هذا فوجهان:
أحدهما: قول من يجوز على الله تعالى الحركة والانتقال وهو باطل وثانيهما: النزول بالقرب المعنوي لا الحسي فإن الله تعالى قد يقرب بالرحمة والفضل من عبده ولا يراه العبد، ولهذا قال موسى عليه السلام {رَبّ أَرِنِى} [البقرة: 260] أي أزل بعض حجب العظمة والجلال، وادن من العبد بالرحمة والإفضال لأراك.
الوجه الثاني: أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى الله نزلة أخرى، وحينئذ يحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل على متن الهوى ومركب النفس ولهذا يقال لمن ركب متن هواه إنه علا في الأرض واستكبر، قال تعالى: {عَلاَ فِي الأرض} [القصص: 4] ثانيهما: أن المراد من النزلة ضدها وهي العرجة كأنه قال رآه عرجة أخرى، وإنما اختار النزلة، لأن العرجة التي في الآخرة لا نزلة لها فقال نزلة ليعلم أنها من الذي كان في الدنيا والقول الثاني: أنه عائد إلى جبريل عليه السلام أي رأى جبريل نزلة أخرى، والنزلة حينئذ يحتمل أن تكون لمحمد صلى الله عليه وسلم كما ذكرناه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم على ما ورد في بعض أخبار ليلة المعراج، جاوز جبريل عليه السلام، وقال له جبريل عليه السلام لو دنوت أنملة لاحترقت، ثم عاد إليه فذلك نزلة.
فإن قيل فكيف قال: {أخرى}؟ نقول لأن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الصلاة تردد مراراً فربما كان يجاوز كل مرة، وينزل إلى جبريل، ويحتمل أن تكون لجبريل عليه السلام وكلاهما منقول وعلى هذا الوجه فنزلة أخرى ظاهر، لأن جبريل كان له نزلات وكان له نزلتان عليه وهو على صورته، وقوله تعالى: {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} المشهور أن السدرة شجرة في السماء السابعة وعليها مثل النبق وقيل في السماء السادسة، وورد في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «نيقها كقلال هجر وورقها كآذان الفيلة» وقيل سدرة المنتهى هي الحيرة القصوى من السدرة، والسدرة كالركبة من الراكب عندما يحار العقل حيرة لا حيرة فوقها، ما حار النبي صلى الله عليه وسلم وما غاب ورأى ما رأى، وقوله: {عِندَ} ظرف مكان، أو ظرف زمان في هذا الموضع؟ نقول المشهور أنه ظرف مكان تقديره رأى جبريل أو غيره بقرب سدرة المنتهى وقيل ظرف زمان، كما يقال صليت عند طلوع الفجر، وتقديره رآه عند الحيرة القصوى، أي في الزمان الذي تحار فيه عقول العقلاء، والرؤية من أتم العلوم وذلك الوقت من أشد أوقات الجهل والحيرة، فهو عليه الصلاة والسلام ما حار وقتاً من شأنه أن يحار العاقل فيه، والله أعلم.
المسألة الثالثة: إن قلنا معناه رأى الله كيف يفهم {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى}؟ قلنا فيه أقوال: الأول: قول من يجعل الله في مكان وهو باطل، وقد بالغنا في بيان بطلانه في سورة السجدة الثاني: رآه محمد صلى الله عليه وسلم وهو {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} لأن الظرف قد يكون ظرفاً للرائي كما ذكرنا من المثال يقال رأيت الهلال، فيقاله لقائله أين رأيته؟ فيقول على السطح وربما يقول عند الشجرة الفلانية، وأما إن قلنا إن المراد جبريل عليه السلام فالوجهان ظاهران وكون النبي صلى الله عليه وسلم مع جبريل عند سدرة المنتهى أظهر.
المسألة الرابعة: إضافة السدرة إلى المنتهى من أي (أنواع) الإضافة؟ نقول يحتمل وجوهاً أحدها: إضافة الشيء إلى مكانه يقال أشجار بلدة كذا لا تطول من البرد ويقال أشجار الجنة لا تيبس ولا تخلو من الثمار، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك، وقيل لا يتعداه روح من الأرواح.
وثانيها: إضافة المحل إلى الحال فيه، يقال: كتاب الفقه، ومحل السواد، وعلى هذا فالمنتهى عند السدرة تقديره سدرة عند منتهى العلوم ثالثها: إضافة الملك إلى مالكه يقال دار زيد وأشجار زيد وحينئذ فالمنتهى إليه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه، قال الله تعالى: {إلى رَبّكَ المنتهى} [النجم: 42] فالمنتهى إليه هو الله وإضافة السدرة إليه حينئذ كإضافة البيت إليه للتشريف والتعظيم، ويقال في التسبيح: يا غاية مناه، ويا منتهى أملاه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8